لن يجد المتأمل للنص القرآني صعوبة في التمييز بين إطارين أو سياقين لرؤية المرأة.. الأول تمثله المرأة كقيمة إنسانية وذات فاعلة ومكلفة ذات ضمير حي وروح هي من روح الله تعالى وهي في هذا السياق صنو الرجل تماما: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً...} [النحل: 97] وكل خطاب لا يشير إلى أنه يخص الرجل فهو من الخطاب المشترك فعندما تسمع أم المؤمنين أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} تترك ما تقوم به من عمل وتنتبه لما سيقوله النبي صلى الله عليه وسلم وعندما تندهش رفيقتها من شدة اهتمامها توضح لها السيدة أم سلمة أن كلمة الناس تشمل الرجال والنساء فتقول لها: ويحك أو لسنا من الناس رواه أحمد وهكذا يفهم أي خطاب قرآني مستهل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...}.
وهذا المعني يتضح أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال» رواه أحمد.
أما السياق الثاني الذي يتناول فيه القرآن قضايا النساء فهو سياق الواجبات والمسئوليات الملقاة عليهن والتي تختلف جزئيا عن الواجبات الملقاة على عاتق الرجال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} أي في طبيعة المهام الملقاة على عاتقه.. تلك الواجبات المتكاملة التي يؤدي النقص في أحدها إلى اختلال في حركة الحياة الإنسانية وتبعا لقاعدة اختلاف المسئوليات لابد أن تختلف قواعد الحقوق، فإذا كان من واجبات المرأة تأمين جبهة البيت الداخلية بكل ما يستلزمه ذلك من وقت وجهد وإدارة فلابد أن يكون من حقوقها كفالتها اقتصاديا وتوفير كافة احتياجاتها المادية من طعام ولباس وعلاج في حدود المعروف كما يكون من حقها تلقي التقدير والاحترام والدعم النفسي لما تقوم به من جهد تنموي حقيقي يمثل الأساس المتين لبنية المجتمع.
وإذا كان من واجبات الرجل أن ينفق على المرأة ويكفلها بل ويقدم الهدايا إليها كالمهر الذي أوجبته الشريعة كحق للمرأة ورمز من رموز التقدير لكيانها ويقوم بتأسيس بيت الزوجية فلابد أن يكون حقه في الإرث أكبر كي يستطيع مواجهة هذه المهام المطلوبة منه، وهكذا نجد أن الشريعة الإسلامية راعت فلسفة الحقوق والواجبات وفقا لمعايير دقيقة من العدالة بشكل متسق تماما دون أية رؤية تحيزية لجنس على حساب جنس آخر، فرب العالمين هو الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما.
الله سبحانه وتعالى يعلم أدق الخصائص النفسية والعاطفية والعقلية والجسدية لكل من الذكر والأنثى.. تلك الخصائص التي سيتحدد في ضوئها الحقوق والواجبات المتفق منها والمتمايز في سياق تكامل إنساني لشطري النفس الواحدة الذكر والأنثى وفي إطار من التقدير الكامل لهما بنفس الدرجة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..} [الإسراء: 70].
الدعوة لأطروحتنا:
إذا كانت هذه هي صورة النساء في الإسلام وفقا للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وهي صورة واضحة وعادلة ورحيمة لا يقلل من جمالها تشوهات الوعي لدى البعض أو الممارسات الجاهلية للبعض الآخر فمن حقائق الاجتماع الإنساني أن هناك دائما فجوات بين النظرية والتطبيق وكلما ابتعدت مجتمعاتنا عن الدين ازدادت هذه الفجوات وتعمقت ولكن هذا كله ليس مبررا على الإطلاق للتراجع عن تقديم هذه الأطروحة للعالم أجمع ناهيك عن تفعيل هذه الأطروحة داخل مجتمعاتنا والدعوة إليها وتنظيم البرامج والدورات والملتقيات وورش العمل وكل ما من شأنه إعادة الاعتبار لكيان النساء كما ورد في منابع الإسلام الصافية أي في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتتأكد هذه الدعوة لأن قضايا النساء أصبحت كالثغرة التي يحاول أعداء أمتنا الولوج منها لتحطيم البنية العميقة للمجتمع المسلم بحيث يبقى مفرغا خاويا لا يملك الحد الأدنى من القدرة على المقاومة فبعد السيطرة على السياسي والنخب السياسية ـ إلا ما رحم ربي ـ لم يتبق إلا الاجتماعي الذي يعتمد على الأسرة وفي القلب منها المرأة التي تفوق في الأهمية دور النواة في الخلية.
وربما كانت مؤتمرات الأمم المتحدة للمرأة وسيلة جيدة لتقديم صورة المرأة كما يريدها الإسلام ولكن للأسف الشديد لم تكن وفود الدول المسلمة على قدر هذه المسئولية التاريخية.. يروي المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة أن بعض سيدات الوفد المصري قبل السفر لبكين حضرن إليه ليقدم لهن بعض الردود التي يستطعن بها الدفاع عن موقف الإسلام من المرأة!!!! وعندما وضح الدكتور عمارة صورة المرأة في الإسلام كانت النساء في غاية الدهشة ولكن ليس من المنتظر بالطبع من نساء أكبر همهن أن يدافعن عن دينهن باعتباره جزءا من تراثهن القومي أن يكون لهن دور أكثر من بعض التحفظات على مواد وثيقة المؤتمر، أما مرحلة دعوة الآخرين لاحتذاء نموذجنا الحضاري فمرحلة ليست من اختصاص هذه الوفود وهي مرحلة لا يمكن أن تتحقق دون أن تساندها يقظة حضارية شاملة مؤسسة على آليات الفعل والمبادرة بديلا عن حالة الدفاع والتلقي والاستلاب ورد الفعل.
مصطلح الجندر:
نستطيع القول أن للمصطلحات قوة داخلية كامنة لا يمكن تجاهلها ولها ظلال تشي بالبيئة التي نشأت فيها فالمصطلح ليس مجرد لفظ محايد يدل على معنى ما بل هو منظومة ثقافية كاملة تم تلخيصها في هذا اللفظ ومصطلح الجندر أكبر دليل على ذلك، تقول الدكتورة أماني أبو الفضل ـ وهي واحدة ممن تتبع نشأة هذا المصطلح في أروقة الأمم المتحدة ـ عن هذا المصطلح: أريد أن أؤكد لمن يريد إدخاله في ثقافتنا ببساطة وسذاجة أنه ليس بالمصطلح الهين ذي الدلالة القطعية التي إذا ما ألقيت علينا تلقفناها دون أي محاولة للفهم بل هو (مصطلح- منظومة) يعبر عن فلسفة ونظام قيمي متكامل ويقدم صورة حياتية غير نمطية يقتحم بها الفكر الغربي مجتمعات لها خصوصياتها وذات جذور حضارية وتراث ديني يصعب على الاقتلاع.
فهذا المصطلح الذي تم صكه لأول مرة في مؤتمر السكان والتنمية واستخدم نحو 50 مرة في وثيقة المؤتمر بديلا عن كلمة الجنسين بعد عام عقد في بكين المؤتمر التالي وكان شعاره إعادة صياغة المجتمع عن طريق رؤية العالم بعيون النساء وفي وثيقة هذا المؤتمر وردت كلمة جندر 223 مرة بمعان متعددة لدرجة أربكت الوفود الذين لا حول لهم ولا قوة في صك المصطلحات وأقصى ما فعلوه هو مطالبة إدارة المؤتمر بكشف غموض هذا المصطلح حتى إنه تم تشكيل لجنة خاصة لتفسير مصطلح الجندر منبثقة عن المؤتمر وجاء بيانها بهذا التعريف العجيب- علينا فهم مصطلح الجندر المستخدم في وثيقة المرأة بالطريقة العادية نفسها التي استخدم بها في المؤتمرات والندوات التي عقدت في الأمم المتحدة قبلا وأنه ليست هناك أي تداعيات جديدة لهذا المصطلح في هذه الوثيقة- ومن المعروف أن المصطلح لم يسبق تعريفه في المؤتمرات السابقة، وعلى الرغم من رفض وفود الدول العربية والإسلامية التصديق على هذا المصطلح وتم وضعه في جميع مواضعه تحت التحفظ وعلى الرغم من ذلك تسلل المصطلح إلى الجمعيات النسوية النشطة في بلادنا وتلقوه بالقبول وقدموا تعريفا جميلا له من أجل القبول المجتمعي به وأنه يعني أن يتمكن كل من الرجل والمرأة على أداء الدور المنوط به وتم عقد ورش العمل والترويج الإعلامي الصاخب للمصطلح وأصبحت الجندرة مطلبا رئيسا لهذه الجمعيات ومنها إلى مراكز اتخاذ القرار المعنية بالشأن الاجتماعي كما حدث مؤخرا مع قانون الأحوال الشخصية الجديد الذي سيعرض على مجلس الشعب المصري في دورته القادمة ذلك القانون الذي يعد تجليا للحالة الجندرية النشطة التي تعيشها واحدة من أكبر الدول العربية والإسلامية.
الكاتب: فاطمة عبد الرءوف.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.